بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
قد أُشْكِلَ على بعض الفضلاء مدلول لفظ السماوات في القرآن الكريم فقصروه على سماوات المعراج, وهي أمر غيبي مسلَّم به طبقًا للمنقول؛ والأصل في الغيبي غير المرصود التفويض بلا تكييف ولا إنكار إذا ثبت نقله, ولكن ينبغي تمييزه عن السماوات المرئية التي طالبنا الكتاب العزيز في جملة مواضع بالنظر إليها والتطلع إلى بديع صنع الله تعالى ومعاينة الدلائل الحسية على حكمته تعالى وتقديره في الخلق, ولا مُستند إذن لقصر دلالة لفظ السماوات في الكتاب العزيز على أمر غيبي وتجهيل القائل بأنها كيانات حسية مرصودة معلومة أو ينزلها على الكون المحسوس, والقاعدة أن دلالة اللفظ إذا تعددت معانيه فهي بحسب سياقه, والمسألة أيضا قد يختلف فيها الفهم ولا يعلم مراد الله تعالى بيقين سواه؛ فضلا على أن الترصد والتعجل بالاتهام يطال العلماء سلفًا وخلفًا القائلين بأن أجرام السماوات مرئية وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد صرح رحمه الله تعالى أن السماوات في القرآن الكريم هي أفلاك تلك الأجرام السماوية المشاهدة وأن قول أغلب العلماء كذلك أنها الأفلاك يعني مجاري الأجرام السماوية المشاهدة؛ وهذا قوله:
في مجموع الفتاوى (ج6ص592): "سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى..: هل الأفلاك هي السموات أو غيرها؟ فأجاب: الحمد لله..، قوله: الأفلاك هل هي السموات أو غيرها؟ ففي ذلك قولان معروفان للناس، لكن الذين قالوا إن هذا هو هذا احتجوا بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ نوح 15و16، قالوا: فأخبر الله أن القمر في السموات, وقد قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ الأنبياء 33، وقال تعالى: ﴿لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يس40, فأخبر في الآيتين أن القمر في الفلك كما أخبر أنه في السموات؛ ولأن الله أخبر أنا نرى السموات بقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ الملك 3و4, وقال: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ ق6، وأمثال ذلك من النصوص الدالة على أن السماء مشاهدة والمشاهد هو الفلك (بأجرامه) فدل على أن أحدهما هو الآخر".
وقال (ج6 ص557): "قال بعضهم أن الأفلاك غير السموات لكن رد عليه غيره هذا القول بأن الله تعالى قال: ﴿ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا﴾, فأخبر أنه جعل القمر فيهن وقد أخبر أنه في الفلك: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.., وتحقيق الأمر فيه.. أن ما علم بالحساب علما صحيحا لا ينافى ما جاء به السمع وأن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافى معقولا صحيحا.., فإن ذلك.. قد أشكل على كثير من الناس حيث يرون ما يقال أنه معلوم بالعقل مخالفًا لما يقال أنه معلوم بالسمع, فأوجب ذلك أن كذبت كل طائفة بما لم تحط بعلمه حتى آل الأمر بقوم من أهل الكلام إلى أن تكلموا في معارضة الفلاسفة في الأفلاك بكلام ليس معهم به حجة لا من شرع ولا من عقل وظنوا أن ذلك الكلام من نصر الشريعة وكان ما جحدوه معلوما بالأدلة الشرعية أيضا".
وقد ورد لفظ السماء إفراداً وجمعاً في القرآن الكريم بالتعريف غالبًا دلالة على معهود مما يعني أن الموصوف في كل حالة مشاهد معلوم للأمم, وأصل لفظ السماء هو العلاء بالنسبة للناظر من الأرض, ولذا لم يرد لفظ الأرض في الكتاب العزيز دالا على الكوكب إلا بالإفراد, والأصل في لفظ السماء هو الدلالة على موجود حسي في العلو حتى قالوا (هو كل ما علاك فأظلك), قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله تعالى في مقاله حول إمكان الوصول إلى القمر والكواكب: "ذكر جماعة من المفسرين.. في هذه الآية ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً﴾ البقرة 22؛ أن المراد بالسماء هنا هو السحاب سمي بذلك لعلوه وارتفاعه فوق الناس, ومن هذا الباب أيضا قوله..: ﴿مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ الحج15؛.. قال المفسرون معناه فليمدد بسبب إلى ما فوقه من سقف ونحوه، فسماه سماء لعلوه بالنسبة إلى ما تحته, ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ﴾ إبراهيم 24,.. فقوله هنا (في السماء) أي في العلو, والأدلة في هذا الباب في كلام الله تعالى وكلام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكلام المفسرين وأئمة اللغة على إطلاق لفظ السماء على الشيء المرتفع كثيرة"؛ فنحن إذن مخاطبون وفق مطلق اللغة وقرائن السياق ولا مستند لدعوى شرعية رأي وتعطيل قواعد الخطاب, قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة 1393هـ يرحمه الله تعالى: "وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول" ج2ص390, وقد لاح لفضيلته العثور على دليل لم يسبقه إليه أحد لصرف لفظ السماء عن أصل دلالته اللغوية ظانًّا أن قول المنتسبين لعلم الهيئة (أو الفلك) بإمكان الوصول للقمر يخالف الشريعة فبلغ دفاعه حد إنكار تعلم علم الهيئة طالما لم يحقق النظر في الكون غرض الهداية (ج 6ص113): "ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدي القرآن العظيم.., ولا شك أن الذين يحاولون الصعود إلى القمر بآلاتهم ويزعمون أنهم نزلوا على سطحه سينتهي أمرهم إلى ظهور حقارتهم وضعفهم وعجزهم وذلهم" ج 6ص113, "ويوضح ذلك أنه تعالى صرح.. بأن القمر في.. السماء ذات البروج بقوله: ﴿تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً﴾ الفرقان61, وصرح.. بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ الحجر16-18" ج2 ص385, "ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في اسم الشياطين دخولاً أولياً لعتوهم وتمردهم" ج2ص383, "فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين أصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داخرين صاغرين عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يُراد بها مطلق ما علاك وإن كان لفظ السماء قد يطلق لغة على كل ما علاك" ج2 ص384, "فإن قيل: الآيات التي استدللت بها على أن القمر في السماء المحفوظة فيها احتمال.. يقتضي عدم دلالتها على ما ذكرت.., قلنا: نعم هذا محتمل ولكنه لم يقم عليه عندنا دليل يجب الرجوع إليه" ج6 ص 113, "فالآية الكريمة يُفهم منها ما ذكرنا ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء" ج2 ص384.
وتصريحه رحمه الله تعالى بأن قوله اجتهاد شخصي لا إجماع أمة وتركه فسحة للرأي الآخر وتورعه عن الجزم يقينًا بالمراد هو أحد فضائل علماء الإسلام؛ وبالفعل قد خالفه سواه من الأجلاء, فإذا كانت الرحلات الأمريكية المأهولة والروسية غير المأهولة قد جلبت الكثير من صخور القمر فقد سبقهم إلى إمكان بلوغه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في كتابه: (الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب) بقوله: "قد تأملنا ما ورد في الكتاب العزيز من الآيات المشتملة على ذكر الشمس والقمر والكواكب فلم نجد فيها ما يدل دلالةً صريحةً على عدم إمكان الوصول إلى القمر أو الكواكب؛ وهكذا السُنَّة المُطهَّرَة لم نجد فيها ما يدل على عدم إمكان ذلك", والقمر هو أحد الأجرام الفلكية المرئية والكتاب العزيز يصرح بأنه في السماوات وذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنّ نُوراً وَجَعَلَ الشّمْسَ سِرَاجاً﴾ نوح 15و16, وفضلا على الدلالة على أن نوح عليه السلام كان يقيم الحجة على قومه بما هو ليس غيبيًا وإنما أمرًا مرصودًا؛ فإن الدلالة على أن القمر في السماوات صريحة مما يعني أن المراد هو سماوات الأجرام المشاهدة, ومع البيان في جملة مواضع في الكتاب العزيز بأن ما في السماوات مُعاين وتكرار الأمر مرارًا بتوجيه النظر إلي ما فيها فقد فسرها الأعلام بالأفلاك أي الطرائق الشفافة المميزة بما فيها من أجرام مشاهدة، وقوله تعالى ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ﴾ يونس101؛ لم يوجِّه النظر للسماوات ذاتها وإنما إلى ما فيها مما يعني أنها طرائق وأن أجرامها مرئية, ومثله قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ﴾ الأعراف 185, قال الألوسي رحمهم الله تعالى جميعا (روح المعاني ج9ص178): "أجمعوا أن السماوات التي هي الأفلاك لا تُرى لأنها شفافة.. لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب", وقال: و"ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء (أجرامها) مرئية", وقال النحاس: "السماوات (أجرامها) مرئية", وقال ابن عاشور المتوفى سنة 1393هـ في تفسيره (ج1ص385): "قد عدَّ الله تعالى السماوات سبعًا وهو أعلم بها وبالمراد منها؛ إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات (آفاق) الأجرام العلوية العظيمة.. ويدل على ذلك أمور: أحدها أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض.. فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي.. ثانيها أنها ذكرت مع الأرض من حيث أنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب أن يكون تفسيرها (آفاق) تلك الأجرام المشاهدة"، وبالفعل تنتظم حشود النجوم في آفاق تعلو بعضها بعضا دون أقصى ما يمكن أن يبلغه نظر باستخدام المراصد الراديوية والمسمى بالكوازارات، فتنتمي المجموعة الشمسية لمجموعة نجومية محلية تتبع حشدًا نجوميًّا أكبر يتبع مجرتنا التي تتبع بدورها مجموعة مجرية محلية تتكون مما يربو على 30 مجرة تتبع حشدًا مجريًّا أكبر.
وفي قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ الأنبياء 30؛ دلالة واضحة على وحدة المادة الأصلية التي نشأت منها الأرض وكل الأجرام السماوية وهي حقيقة علمية!؛ فالكون الفيزيائي بكل حشوده النجومية وتجمعاته المجرية مكون من نفس الجسيمات الذرية, وهو يدعو لإعادة النظر في الفهم بأن كل الكون الفيزيائي هو السماء الدنيا فحسب لأن لفظ السماوات وارد بالجمع.
وتوزع الأجرام السماوية في طبقات يجعل أفلاكها أي مداراتها محلا كالطرائق وليست أجساما صلبة التصقت عليها الأجرام الثوابت وفق الاعتقاد السائد حتى القرن السابع عشر, ويتفرد القرآن الكريم منذ القرن السابع الميلادي دون أي كتاب آخر يُنسب للوحي بنسبة الحركة للأجرام السماوية ذاتها وجعل مساراتها طرائق في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ﴾ المؤمنون 17, قال ابن جزي الكلبي المتوفى سنة 741هـ (ج 2ص240): "يعني الأفلاك لأنها طرق", وقال ابن عاشور المتوفى سنة 1393 هـ (ج15ص361): "وطرائق جمع طريقة.. وهي الطريق.. شبه بها أفلاك الكواكب", والتشبيه بالطرائق يعني أن كل الأجرام تتحرك, قال تعالى: ﴿وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يس40, و﴿كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ الأنبياء33, و﴿كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى﴾ الرعد2 وفاطر13 والزمر5, و﴿كُلّ يَجْرِيَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى﴾ لقمان29, قال القرطبي المتوفى سنة 671 هـ في تفسيره (ج11): "(كل) يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب.. (في فلك يسبحون) أي يجرون.., قال ابن زيد: الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر", ولك أن تنقل عن الأجلاء سلفًا وخلفًا في عبارات صريحة لا تحتمل التأويل القول في أي تفسير شئت أن تلك الطرائق الفلكية هي نفسها السماوات السبع في تعبير الكتاب العزيز, قال ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ يرحمه الله تعالى (ج5ص469): "قوله: (سَبْعَ طَرَائِقَ)؛ قال مجاهد يعني السموات السبع", وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي المتوفى سنة 1376 هـ يرحمه الله تعالى (ج1ص549): (سَبْعَ طَرَائِقَ) أي سبع سماوات طباقًا كل طبقة فوق الأخرى قد زينت بالنجوم والشمس والقمر، وورود لفظ (السماوات) بالجمع يدل على تميز الموصوف إلى طبقات؛ سواء آفاق الأجرام السماوية السابقة للأرض في التكوين والنظم أو طبقات الجو اللاحقة بها في التكوين والنظم, قال ابن عاشور يرحمه الله تعالى (ج1ص223): "والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها, وإن أريد بها.. (آفاق الأجرام) العلوية.. (فهي) أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقا", وبهذا يتيسر حمل تعبير (السماء الدنيا) على الجو عند الإطلاق في السياق وعلى أدنى أفق فلكي عند التخصيص بالكواكب دون آفاق النجوم في قوله تعالى: ﴿إِنّا زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ الصافات 6؛ خاصة مع حمل الأجلاء لفظ مصابيح على الشهب لا النجوم في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ﴾ الملك 5, وقوله تعالى: ﴿وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ فصلت 12, قال الألوسي: "قولهم رُمِىَ بالنجم يُحتمل أن يكون مبنيًّا على الظاهر للرائي..، وهذه الشهب ليست هي (النجوم) الثوابت وإلا لظهر نقصان كثير في أعدادها..، ولا يأباه قوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ)؛ حيث أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها؛ لأنا نقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض.., والشهب من هذا القسم وحينئذ يزول الإشكال".
وأما طلب تَعَلُّم علم الفلك وسواه من العلوم المفيدة فهو دعوة دينية وضرورة حياتية ومظهر نهضة حضارية وتكليف أسقطه عن الأمة البعض على طول تاريخ الإسلام؛ وإن خلط البعض اليوم بين حقائقه القائمة على الأرصاد وبين التنجيم القائم على الوهم فنفروا منه أو ظنوا حقائقه محض أوهام فلسفية تتبدل مع الزمن، أو غالوا فظنوه مخالفا للشريعة استنادا إلى اكتفاء القرآن الكريم في جواب السؤال عن الأهلة بالجانب الشرعي في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ﴾ البقرة189، ولكن ما كان العدول عن الجانب الفلكي إلا مراعاةً للحالة العلمية لأوائل المخاطبين لطفًا بهم والاكتفاء بما يحقق الغرض التشريعي، فلا يستقيم إذن النفور من تعلم علم الفلك أو رفض حقائقه بدعوى أن الصحابة الكرام لم يهتموا إلا بتعلم الدين فحسب, قال فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هـ في تفسيره (ج7ص133): "ربما جاء (أحدهم) وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم وذلك على خلاف المعتاد، فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته وتقريره من وجوه؛ الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها، والثاني: أنه تعالى قال: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ ق6، فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها، والثالث: أنه تعالى قال: ﴿لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْـثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ غافر57، فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السموات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس، ثم إنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله: ﴿وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ الذاريات21، فما كان أعلى شأناً وأعظم برهاناً منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب، والرابع: أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات والأرض فقال: ﴿وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ آل عمران191، ولو كان ذلك ممنوعاً منه لَمَا فعل، والخامس: أن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان؛ منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين، ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى، وأيضاً فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلاله أكمل".
وفي موضع آخر قال الرازي رحمه الله تعالى (ج2ص481): "روي أن عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي (لمؤلفه بطليموس في القرن الرابع قبل الميلاد) على أستاذه عمر الأبهري، فقال بعض الفقهاء يوماً: ما الذي تقرؤه، فقال (عمر): أفسر آية من القرآن وهي قوله تعالى ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ ق6؛ فأنا أفسر كيفية بنيانها، ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمته", وعبارة شهاب الدين الألوسي المتوفى سنة 1270 هـ في تفسيره (ج23ص107): "فنحن ننظر كيف خلق السماء وكيف بناها وكيف صانها عن الفروج"، وقال أبو حيان الأندلسي المتوفى سنة 745 هـ في تفسيره (ج5ص360): "علم الهيئة.. علم شريف يطلع فيه على جزئيات غريبة من صنعة الله تعالى يزداد بها إيمان المؤمن إذ المعرفة بجزئيات الأشياء وتفاصيلها ليست كالمعرفة بجملتها", وقد أجمل فضيلة الشيخ فيصل مولوي المرشد الديني لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا رأي علماء الشريعة بقوله: "أكثر العلماء (على) أن الحد الأدنى من العلوم الشرعية الضرورية فرض عين على كل مسلم، أما العلوم الأخرى التي بها قوام الدنيا كالطب والحساب والفلك وغيرها فهي فرض كفاية..، ومن المعروف أنّ جميع العلوم تتراوح بين أن تكون فرض عين أو فرض كفاية أو مستحبّة، ولم ينه الإسلام إلاّ عن علم (التنجيم)..، فهو شعبة من السحر، أو ادعاء لعلم الغيب", وقال فضيلة الشيخ الدكتور أسامة بن عبد الله خياط إمام الحرم المكي والأمين المساعد السابق للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة: "إن للعلوم الكونية كما هو الشأن تماماً في شقيقاتها من علوم الدين دورًا فاعلاً ومؤثراً في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإسفار عن وجه جلالهما وجمالهما، وبيان هديهما وشرائعهما كما أمر الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ذلك أن العلم الصحيح في هذا الدين رديف الوحي في تثبيت الهدى؛ تحقيقاً لوعد الرب جل وعلا بجعل آياته في الآفاق والأنفس عاملاً من عوامل بيان الحق وترسيخ اليقين: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيد﴾ فصلت53، وإن من أهم هذه العلوم الخادمة للكتاب والسنة علم الفلك أو علم الهيئة كما كان يسميه الأقدمون..، أما علم الفلك فقد حظي بعناية أهل الإسلام منذ عهد بعيد؛ ولا غرابة في ذلك إذا علم أن القرآن الحكيم أورد جملة وافرة وعدداً كبيراً من الآيات المتعلقة بالكون والفلك..، ولا ريب أنه كان لهذه الآيات أبلغ الآثار في نفوس الفلكيين المسلمين فأقبلوا عليها دارسين وباحثين في دقائقها غواصين في بحار معانيها ملتقطين عجائب لآلئها موجهين الأنظار إلى ما حوته من إعجاز علمي بين، ولهذا لم يكن عجباً أن يعد كثير من العلماء والباحثين بحق علم الفلك كله تفسيراً لهذه الآيات القرآنية الكونية وبياناً لما تضمنته من إعجاز علمي شهدت ولا تزال تشهد به الحقائق العلمية التي أذهلت العالم".