بسم الله
لا يخفي علي أحد أن المجتمعات الإسلامية خصوصاً، الإنسانية عموماً، وهي تعاني ما تعاني من مشكلات اجتماعية/ وحضارية، بحاجة ماسة إلى فهم أعمق وتطبيق أسرع لمقاصد الشرع الحنيف، ولخطاب القرآن الكريم الخالد، وهدايات النبوة والرسالة الخاتمة. تلك المقاصد، وذاك الخطاب، وهذه الهداية التي استوعبت المراحل والحالات، والمشكلات والأزمات الاجتماعية والحضارية كلها..عافيةً ومرضاً، نهوضاً وسقوطاً، نصراً وهزيمة، حركة وركوداً، اجتماعاً وتفرقاً، إعماراً واستخراباً الخ فامتلكت الحلول لهان والإجابة الكاملة علي أصول مشكلاتها وأزماتها، وسبل التعامل معها، وإلا كيف استحق أن يكون خالداً، خاتماً، ومحلاً للأسوة والاقتداء؟!: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"(الأنعام: 153)، ويقول تعالي: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين"(يوسف : 108).
إن النبوة والرسالة الخاتمة.. اللبنة النهائية في البناء المتكامل الكامل لدين الإسلام:"إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران:19)، "اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة: 3) لذا فقد أصبح الإسلام بناء المستقبل الخالد، ومنهجه الدائم، الذي اكتمل، وكمل على يدي رسول الله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وأصبح في مأمن من النقص أو الانهدام، قال تعالى: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون" (المائدة: 3). وأمتلك ناصية الحلول لكل ما يعن من مشكلات وأزمات. ولعل الأزمة ألاقتصادية العالمية وتبعاتها الحالية (ولعل المجال هنا لا يتسع للإسهاب في هذ الأمر) خير شاهد علي ذلك.
فلقد حرمت الشريعة الربا "وأحل الله البيع وحرم الربا" (البقرة:275)، فـ"الربا هو الطريق الوحيدة في التعامل الاقتصادي التي تجعل دورة الثروة تجري في اتجاه واحد، مما جعل النظام الصناعي نظاما استغلاليا". لقد أثبت التاريخ بطلان الأحكام الوضعية التي يتوصل إليها البشر بأنفسهم، بعيدا عن الوحي المعصوم. فبسبب تحريم الربا استمر الاقتصاد الإسلامي لمدة ألف سنة، دون أن تظهر طبقة فاحشة الغنى، وأخرى فاحشة الفقر.
والنظام الاقتصادي الحديث القائم على الربا، هو أول نظام من نوعه أنشأ الوضع الاقتصادي القلق في المجتمع، بتوزيع الثروات طريقة غير عادلة، وهذا النظام عاجز عن حل هذه المعضلة. وهاهم الاقتصاديون العالميون يعيدون الاعتبار لأسس وأصول الاقتصاد الإسلامي بل باتت المعاهد/ فضلا عن المصارف المالية في فرنسا وغيرها تدرس مقررات ، وتخصص نظما مالية تعمل وفق الشريعة الإسلامية، حيث لا ربا ولا مرباة ولا فائدة (حيث الفائدة صفر). قال عز وجل:" سنريهم آياتنا في الأفاق، وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" (فصلت: 53).
ولعل السطور القادمة تشير ـ على عجالة وإيجازـ لنماذج من إعجاز الهداية النبوية، وتشخيصها واستشرافها الحلول الجذرية للمشكلات الاجتماعية والحضارية.. المحلية والعالمية.
منهاج النبوة يحدد المأزق الاجتماعي/الحضاري الراهن:
قال صلي الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعي الأمم عليكم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها..قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال:" لا، بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن". قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" (رواه أبو داوود، وفي صحيح أبي داوود للألباني).
إنه تحديد دقيق مُعجز، ونقطة انطلاق للخروج من المأزق الاجتماعي الحضاري.. بكل أطرافه وأطيافه وأماكنه.. المحلية والعالمية. أمم متعدد تتكالب / تتداعي علي أمتنا (كتداعي الأكلة إلي قصعتها).. استخرابا، واستقطاعا من أراضيها، واستنزافا لثرواتها المادية والمعنوية في آن معاً. تدافعاً اجتماعياً/ حضارياً/ ثقافياً، بل لعله أحيانا وجودياً بين النموذج الإسلامي وغيره من النماذج. هذا التدافع بصوره المتعددة والمتنوعة والمتراكمة قد يدمر عالم أفكار الأمة، وقدواتها فضلا عن تبديد / استيراد عالم أشيائها.لذا كان هناك ثمة حوار استفساري من الصحابة الأبرار عن: العلة وأعراضها ومن ثم الحل. بيد أن الاستفسار ذهب إلي طريق "التفسير الكمي/ العددي/ الشخصاني" للمشكلة/ الأزمة الاجتماعية/الحضارية تلك. لكن الرسول صلي الله عليه وسلم صوّب الوضعية الحقيقية إلي عالم الكيف/ الأفكار/ النفوس: إنها وضعية " الغثائية" وعللها وتراكم معضلات "حب الدنيا وكراهية الموت"، وتنامي صور "الوهن" النفسي والاجتماعي والحضاري.
وهنٌ ينعكس علي العلم والإيمان والعمل ..الزاد الدائم للاجتماع والتحضر في سبيل السير إلي الله تعالي.
- ولعل (الوهن..حب الدنيا وكراهية الموت) ليتبدي في "المقالة التفاوضية المباشرة" من مبعوث الكفار "عتبة بن ربيعة" لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليثنيه عن دعوته بـ"إغراءات مادية كمية دنيوية زائلة" قال "عتبة": "يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أمورًا، تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، فقال عليــه الصــلاة والسـلام : (قل يا أبا الوليد، أسمع). قال: يا ابن أخي! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيًا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى. فلما فرغ عتبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم. قالفاسمع مني). قال: أفعل. فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من أول سورة فصلت إلى السجدة. فلما سمع عنه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها، يسمع منه، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها سجد، ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليـد ما سمعت، فأنت وذلك"(السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص:293-294).
- لقد كان جوابه صلي الله عليه وسلم لكفار قريش، وهم "يفاوضونه"، وذلك باستعمال وسائلهم الخاصة التي تنتمي إلى "الثقافة الاجتماعية التقليدية المادية":"وما جئت بما جئت به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا أملك عليكم، ولكن بعثني الله إليكم، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله ، حتى يحكم بيني وبينكم"(السيرة النبوية لابن هشام، ص:336).
- لقد دل القرآن الكريم على أن علل الأمم لها أسباب موضوعية، وعافيتها بتلافي تلك الأسباب:" فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض... وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"(هود: 116-117). وقد بيّنت آيات أخرى هذه الأسباب: "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها"(القصص:58).
ويقول تعالي:"وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها"(الإسراء:16)، ويقول تعالي:" وكذلك جعلنا في كلِّ قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون"(الأنعام:123).
"إن تدمير المجتمعات، واندثار حضارتها، وخلاء مساكنها، كان بسبب ما ينشأ فيها من بطر واستكبار وطغيان، وبما تتردى فيه من استغراق في الشهوات وإسراف في المتع و"عبادة الشهوات". فقوم نوح، لم يصبهم العذاب إلا بعد أن استشرت وتأصلت فيهم المفاسد العقدية والاجتماعية، حتى أن نوح عليه السلام دعا عليهم قائلا:"ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" (نوح: 26).وأما "عاد "فقد اتبعوا سبيل المفسدين الظالمين، وملؤوا بلادهم بالظلم": وتلك عادّ جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد"(هود: 59). وأما قوم لوط فلقد بلغ تنكرهم للأخلاق حداً صاروا يرتكبون فيه الفواحش علانية في المجالس والأسواق والنوادي، ولم يبق منهم رجل رشيد:"أئنكم لتأتون الرِّجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المُنكر" (العنكبوت:29).
- والمتأمل في مقالة سيدنا "جعفر بن أبي طالب" للنجاشي في أعقاب الهجرة الأولى إلى الحبشة قال: (يا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف)، يري بياناً مختصراً عن خلل، اجتماعي/ قيمي جعلهم رهائن (دائمين) لجملة من الأهداف السلبية ، التي لم تتح لهم فرصة تفتيق طاقاتهم، وتسخيرها في خدمة رسالة معينة، ترتفع قليلاً أو كثيراً عن الفلسفة الأرضية المغرقة في المادية، والظلم الاجتماعي. لقد حصر هذا الاجتماع (ما قبل الإسلام) نفسه في سجن (الاهتمامات البسيطة) المتوارثة، عن أجيال الفراغ العقائدي.
ويبدو كأن خلاصة أمراض الإنسانية: زاوية الهوى والاشتغال بالعرض الدنيوي الزائل، وزاوية عبادة الأصنام، والإعراض عن الحق تبارك وتعالى، وزاوية الجمود العقلي (الآبائية) والركود الثقافي، وانعدام الفعالية الحضارية حيث غياب المشروع الاجتماعي المتكامل والإيجابي المُوجه للطاقات البشرية، قال تعالى: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً"(الفرقان:43)، "أتعبدون ما تنحتون"(الصفات:95).
إن الأهداف المادية (الطينية) لا تمتلك الروح الدافعة، التي تخلق للناس اهتمامات ترتفع بهم فوق وجودهم الأرضي الزائل، وتربطهم بالواقع الرباني المتسامي، الذي يستلهمون منه (النَـفس الحضاري) الممكن في الأرض.
- ونراه ـ رضي الله عنه ـ يشرح للنجاشي مبادئ الإسلام، و"منهاجه الإصلاحي العام" حيث قال: "فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله ، لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة، والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة".
إنها بداية ظهور منظومة جديدة من الأهداف، وشروق "عافية وتعفف اجتماعي"، بدأ يسجل حضوره التوحيدي العقدي والتاريخي، ومعالم نموذجه الكوني العالمي. إنها عملية إفراغ للعقول من المواريث الاجتماعية الجامدة، والمعطلة، وإخلاء للقلوب من مس الهوي، وشياطين الإنس والجن في آن معاً.
ومن ثم بناء تلك العقول بالقيم الحية، والأفكار السليمة، وتعمير تلك القلوب بالمبررات الدافعة، والشحنات الإيمانية القوية والفاعلة.
- عندما تعطي السنة النبوية حكماً حضارياً، وتاريخياً مضطرداً، فإنما تأخذ حجتها من الموقف القرآني الكلي الشامل والمهيمن، وتعتمد فيما وصلت إليه على "استقراء" كلي للمنطق القرآني في دراسته للظاهرة الاجتماعية/ الحضارية التاريخية. ذكر رسول الله صلي الله عليه وسلم: (ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط، إلا وكثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق، إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر بالعهد، إلا سلط الله عليهم العدو) (الموطأ موقوفا علي ابن عباس رضي الله عنه، قال ابن عبد البر رويناه متصلاً عنه، ومثله لا يُقال رأياً) .
فالحديث يقدم "منطقاً سُننياً.. مضطرداً، ثابتاً، شاملاً" يطرح السببٌ ونتيجته، ويقدم فهماً وافياً للحركة الاجتماعية التاريخية بأمثلة تمس بعض جوانب الحياة الإنسانية. فظهور الغلول (كمرض اجتماعي) يؤدي إلى (أزمة نفسية)، من مظاهرها: (إلقاء الرعب في القلوب)، مما يؤدي إلى تراكم نتائج اجتماعية غير سوية (قلق، وفوضى، وخوف وجريمة الخ). (برغوث عبد العزيز بن مبارك: المنهج النبوي، والتغيير الحضاري، سلسلة كتاب الأمة ، العدد: 43، رمضان 1415هـ، قطر، ص93- وما بعدها).كما إن إنتشار الزنا (مرض أخلاقي) يؤدي إلى (نتيجة كونية تدخل في إطار السنن التكوينية وتساهم في هلاك النسل) وهي حدوث الموت، ونقص المكيال والميزان (مرض اقتصادي) يؤدي إلى (أزمة معاشية) هي انقطاع الرزق، وهلاك الأموال، والحكم بغير الحق (مرض سياسي) يؤدي إلى (أزمة أخلاقية) هي التقاتل، والتنازع وتضعضع بقاء النسل، ويساهم في فشو الدم الذي يخرب به العمران البشري. كما إن الختر بالعهد (مرض أخلاقي ونفسي) يؤدي إلى (أزمة حربية) تقاتل وتسلط الأعداء، وبالتالي الخوف، وضياع الأمن، وتعثر الاقتصاد، وانهيار البلاد، وهلاك مصالح العباد (من حفظ الكليات الخمس: الدين ، والعقل ، والنفس ، والنسل ، والمال).
- هذه الثنائيات التي يذكرها الحديث السابق، ليست مذكورة على سبيل الحصر ، وإنما لعلها أمثلة نموذجية تشير للسنن المتحكمة في المشكلات الاجتماعية المتنوعة..سببا ونتيجة ، تشخيصا وعلاجا بتلافي الأسباب المؤدية لها.
- على صعيد آخر من الأسباب المؤدية، حال حدوها لمشكلات وأزمات اجتماعية وحضارية جسيمة نجد السنة النبوية المطهرة ترسم لنا وعياً "استدلالياً" آخر لمركز الداء الاجتماعي العضال، ومصدره، يهدينا إليه هذا الحديث:عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) (رواه مسلم).
فالحسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر.. أمراض نفسية، وأخلاقي، تؤدي إلى سلوكيات ، وأعمال للجوارح، تؤثر في الحركة الاجتماعية بأكملها. كما إن البيع على بيع الأخر (الخِطبة علي خِطبته)، والظلم، والخذلان، والكذب، والتحقير.. إلخ أمراض أخرى تصدر عن نفوس مريضة، وكل هذه الظواهر السقيمة تصنع أزمات مجتمعية. لذا فالرسول صلي الله عليه وسلم يشير إلى الموقع الحقيقي (التقوى ههنا) في عالم القلب، والعقل، والنفس. ولهذا يضع صلي الله عليه وسلم حدوداً أخلاقية لحفظ القلوب، وتزويدها بالضابط الروحي، والناظم والوازع الأخلاقي، لتنسجم مع سنن الله في الخلق (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).
- وعلى صعيد منهاج حل هذه تلك المشكلات الاجتماعية وغيرها، نجد "حديثاً سُننياً" آخر يعطي توجيهات لتأسيس القاعدة الأخلاقية والسلوكية للبشر: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يتلمس فيه علماً، سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون الكتاب ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطّـأ به علمه لم يسرع به نسبه"(رواه مسلم). إن ربط كل فعل "بشري" بجزاء "إلهي" أمر غاية في الأهمية، ولا نظير له. فربط تنفيس الكربة في الدنيا، بالتنفيس الكرب في الآخرة - وما أعظمه من أمل يعيش من أجله المسلم.
كما ربط التيسير على المعسر، بتيسير الله في الدنيا والآخرة الخ (برغوث عبد العزيز بن مبارك: المنهج النبوي، والتغيير الحضاري، مصدر سابق، ص:96). وهكذا تواصل منطقية السنة ونظام منهاجيها الأخلاقي السلوكي العلمي الوسطي الذي يمكن تطبيقه في أرض الواقع، وفي حياة الناس، تبغي المحافظة على مقاصد الشارع في الخلق، كما أمر المولى تبارك وتعالى. ولعل الغاية القصوى للسنة، والتي أخذتها من القرآن الكريم ، هي السعي إلى (إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً ، كما هو عبد لله اضطراراً) (الموافقات، ص:168).
- إننا نلحظ هذا الربط السابق.. أي ربط كل فعل "بشري" بجزاء "إلهي": "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنـا عليهم بركات من السماء والأرض"(الأعراف: 96)، كما شمل "الجوانب الإيجابية" يشم أيضا "الجوانب السلبية" التي قد تؤدي لمشاكل اجتماعية خطيرة كمشكلة الانتحار. فنسب الانتحار حسب تقارير منظمة الصحة العالمية ـ التي تختلف باختلاف البلدان والثقافات والعوامل الفردية والشخصية والصحية والنفسية والاجتماعي ـ تشير إلى ازديادها على المستوى العالمي, مما يثير قلقاً متزايداً (الانتحار ثامن سبب للوفيات عموما).
فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:"من تردي من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم خالدا مُخلدا فيها أبدا، ومن تحسي سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم، خالدا مُخلدا فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدتُـه في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم، خالدا مُخلدا فيها أبدا"(رواه البخاري)، بيان نبوي بليغ يبين فداحة جريمة الانتحار.. والجزاء من جنس العمل. - أن الإنسان مخلوق اجتماعي له كامل الحرية والإرادة في اختيار أفعاله، فعند ارتكابه أي جريمة عمدا، فإنما هو بقصده وإرادته، ولذلك قررت الشريعة عقوبات رادعة للمجرم.. عبرة للآخرين، وزجراً لهم، ليعم الأمن والسلم الاجتماعيين، قال تعالى :"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم" (المائدة: 38).
ولقد ظهرت نظريات وضعية تخالف ما سبق، فترد سبب الجريمة إلى الأحوال المحيطة بالفرد، ونتيجة لجنوح اجتماعي، وعمل اضطراري غير متعمد، يكمن سببه في الأحوال الحياتية والأمراض العقلية، والعسر المادي والاقتصادي الخ. وطالبت هذه النظريات باعتبار المجرم مريضا تجب معالجته وإصلاح أحواله بدلا من معاقبته، وقد حازت هذه النظريات على الإعجاب، وعملت بها غالبية الدول، وألغيت العقوبات الرادعة للجرائم الأخلاقية، وتنامت أعداد السجون والمساجين، ومع ذلك فقد زادت للجرائم، واضطرت بعض الدول إلى إعادة عقوبة الإعدام بعد أن ألغتها. - وتنظر الشريعة الإسلامية إلى علاقة الرجل بالمرأة، على أنها علاقة متكاملة لا متنافسةـ يكمل بعضها بعضا، لا يصارع بعضها بعضا. فدور المرأة مكمل لدور الرجل، وعلى هذا بنت أحكامها المختلفة. ولكن الدراسات الاجتماعية الوضعية الحديثة روجت لفكرة "المساواة الكاملة بين أنداد متنافسين، فهما نسخة طبق الأصل للآخر".
وهذا اقتضى أن يعمل كل من الرجل والمرأة في أي مجال دون تميز أو تفريق. لكن نشأت كثير من المشاكل عن هذا الخلط المتعمد بين الأدوار، منها علي سبيل التمثيل لا الحصر: مشكلة الأولاد المحرومين من تربية الوالدين، ومشكلة كبار السن. فبينما يعاني الأطفال الحرمان من حنان الوالدين، نعاني الكبار الحرمان من الأقرباء والأصدقاء المخلصين الأوفياء. - وعندما تتراجع المجتمعات تسعي لتقليد الغالب/ المتغلب عليها، فلق ذكر "ابن خلدون" في مقدمته: " أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده".
ويذكر أن السبب في ذلك "أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك، واتصل لها حصل اعتقاداً، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به، أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها، ليس بعصبية، ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب". إن هذه النظرية قد تفسر حالة بعض المجتمعات الإسلامية في هذا العصر. كما أشار إلي: "أن الظلم مؤذن بخراب العمران"، وذكر "أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا، ومفسدة للجباية". كما نبه أيضاً إلى: "أن من عوائق الملك حصول الترف، وانغماس القبيل في النعيم"، وأن:"الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة"، "أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع".
- لكن "ابن تيمية"، يشير للأصالة الذاتية للمجتمع الإسلامي، وأنه لا بد أن يتميز عن غيره، ويترفع عن تقليد المجتمعات الأخرى. يقول: "ثم إن الصراط المستقيم، هو أمور: باطنة في القلب: من اعتقادات، وإرادات، وغير ذلك، وأمور ظاهرة: من أقوال، وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون أيضاً عادات: في الطعام، واللباس، والنكاح، والمسكن، والاجتماع، والافتراق، والسفر، والإقامة، والركوب، وغير ذلك. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة، بينها - ولابد - ارتباط ومناسبة. فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال، يوجب أموراً ظاهرة.. وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً. وقد بعث الله عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له. فكان من هذه الحكمة: أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم، والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة "(ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، ص:11).
خصائص الحلول التغييرية لما بالأنفس والمجتمعات.
- إن المتتبع للهداية النبوية، يجدها قد سارت بتوافق تام، مع سنن البناء الاجتماعي، التي ترافق عملية الربط الحضاري للإنسان برؤية كونية. ولهذا كان التوجيه القرآني حاسماً في التنبيه على الساحة المركزية للتغيير الاجتماعي الأصيل، وهي الساحة النفسية بمفهومها الشامل، قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد:11).
فثمة ضرورات خاصة بفهم الرؤية الكونية عموماً، وتحدثت عن ضرورات خاصة بالمجتمع، وسلوكه الاجتماعي (سلباً وإيجاباً). كما تحدثت الآية عن ضرورات خاصة بالمنهج التغييري لما بالأنفس، والتي جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل (ربط) هذه النفوس والعقول بالخطاب الإلهي، وأتاح لها فرصة الاستجابة لتوجيهات الوحي الأعلى.
- إن هذه الحركة التغييرية لما بالأنفس وهي تتفاعل مع مشكلات الواقع، وهمومه، سعت وتسعي إلى استيعاب متطلبات المجتمع، وسماع خطابه، وحاجاته التي يرفعها الناس علي اختلافها.. عقلية، أو نفسية، أو أخلاقية، أو تربوية، أو معاشية أو مادية، أو عصبية أو قبلية أو جدلية الخ.، كي تتمكن من تقديم الخير له.
- يقول الفيلسوف "رجاء جارودي": "إن ما يميز العلم الإسلامي، هم أنه لا يفصل أبدا بين الاستعمالين الرئيسين للعقل: البحث عن الأسباب، والبحث عن الغايات، أي الملاحظة والاستقراء، اللذين يسمحان بالانتقال من الوقائع إلى القوانين والنظريات، وبالصعود من غاية إلى غاية، من غاية تابعة إلى غاية أسمى "(رجاء جارودي، مستقبل الإسلام في الغرب، ترجمة د.رفيق المصري، دار العالم للطباعة والنشر، جدة، ط 1، 1405هـ، ص:17).
ويوضح "جارودي" كلامه في موضع آخر هذا بقوله: "وليس صحيحا كذلك أن العلم العربي مجرد تاريخ انتهى، قبل أن يبدأ تاريخ علمنا. فالعلم العربي، خلافا لتصورنا الوضعي، لا يفصل العلم عن الحكمة، إذ لا يغيب عن ناظريه: المعنى والغاية.. وبما أنه لا يعتبر الشيء مجرد واقعة، بل ينظر إليه على أنه "آية"، سواء أكان ذلك من ظواهر الطبيعة، أم من كلام الأنبياء، فهو لا يعزل تحليل العلاقات بين الأشياء لاكتشاف قوانينها، عن تركيب علاقاتها بالكل الذي يعطيها معنى.."(رجاء جارودي: الإسلام وأزمة الغرب ترجمة د.رفيق المصري، دار العالم للطباعة والنشر، جدة،ط1، 1403هـ،ص:18-19).
- لقد قام النبي عليه الصلاة والسلام بمعاينة أمراض الجاهلية، ومشكلاتها وتبعاتها، وتشخيص أسقامها على مستويات متعددة لقد حدد النبي عليه الصلاة والسلام، أزمة (إنسان ما قبل الإسلام) في مستواها الكوني عن طريق الوعي القرآني، وأرجعها إلى (مشكلة غياب الرؤية الكونية الصحيحة) لقضايا الإنسان، والكون، والحياة، وموضوع كل واحد منها وغاياته، ووظائفه. ولم يكن صلي الله عليه وسلم ليضع مكان المرض أعراضه، ولا مكان الأعراض أسبابها، ولا مكان الأسباب آثارها.كما لم يكن ، صلي الله عليه وسلم ليغير الواقع الاجتماعي غير السوي، قبل تغيير واقع أسبق منه منهجياً هو (الواقع النفسي) .. ولم يكن ليغير الواقع النفسي، قبل امتلاك نموذج تربوي للتغيير، يستقيه من (وحي إلهي).
- إن منطق السنة في التعامل مع الظواهر الاجتماعية منطق متميز، يأخذ قوته الاستدلالية، ومنهجه البرهاني، من منهج القرآن الكريم، الذي يمتلك شمولية النظر في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وفي كل غيب علمه عند الله سبحانه وتعالى. كما يتحكم في هذه الحركة بشكل مستوعب ، وصحيح لا ريب فيه مطلقاً، فهو صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة. وعلى هذا فالسنة النبوية مثلاً عندما تتحدث عن (قصص الأنبياء ودعوتهم مجتمعاتهم)، فهي تكشف لنا عن تجارب حضارية عميقة وعن تركيب جوهري للحقيقة الدينية، مع حوادث الكون، والحياة، والبشر. ومن هنا يكون لها القصص كاشف للسنن، ومُوجه للناس إلى سنن الهداية.
- إن دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم كمبلغ عن ربه سبحانه وتعالى، دعوة عالمية إنسانية، موجهة إلى كافة الخلق بخطاب أخلاقي، وعقلي، وعملي، ووسطي غايته بناء الاجتماع البشري، والتحضر الإنساني الذي يكون بمقدوره تحقيق مقاصد الشارع في الخلق، وتوفير موجبات الاستخلاف للعباد. لقد كان صلي الله عليه وسلم يخاطب الناس حسب إفهامهم، ودرجات وعيهم، وقدراتهم، وفي كل خطابه راعى الرحمة، والتيسير على الخلائق، وحملهم محمل المصلحة، ورفع الحرج، ونبذ شرائع الإصر والأغلال، وإدخالهم في السلم كافة، قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء : 107)، وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (يسروا ولا تعسروا بشروا ولا تنفروا)(متفق عليه من حديث أنس رصي الله عنه).
صفوة القول: إن الأزمة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية خصوصاً، الإنسانية عموماً، ليست أزمة منهج، وإنما أزمة فهم للمنهج، وكيفية التعامل معه. أزمة تنزيل للمنهج على الواقع، وتقويمه به. فالإسلام بمصدريه الخالدين: الكتاب والسنة، والسيرة كتنزيل عملي وأنموذج، هو المنهج ، وأن المعايرة للواقع، والتحديد للخلل والمشكلات والأزمات، إنما يكون في ضوئها. وأن أي معاودة للنهوض، واستئناف السير الاجتماعي والحضاري، مرهون بتقويم الواقع ، وفق ذلكم المنهاج.
إن تعاليم النبوة في المسألة الاجتماعية، تشكل بالنسبة للمسلم، إن هو فقهها تماماً، مركز الرؤية، وتبصر بالسنن الاجتماعية الأساسية التي تحكم مسيرة الحياة، والاجتماع البشري، والتي تشكل له عواصم من الزللز كما أنها تمكن في الوقت نفسه من الإفادة من الوسائل التي حاولت مناهج البحث الغربي تجريدها في أدوات تسهم في تقليل الخطأ في النتائج، كالتأكيد على استخدام الملاحظة، والإحصاء، والاستبيان، واختيار العينات، والمقابلة، والمعايشة، والمقارنة، والمطابقة.
وهذه كلها أدوات تستعين بها العلوم الاجتماعية اليوم، ويمكن أن تستعين بها العلوم الاجتماعية الإسلامية، وتصوب، وتحسن توظيف نتائجها بما تمتلك من الضوابط المنهجية في الوحي المعصوم، والسنن الاجتماعية التي شرعها الكتاب، وبينتها السنة. إن المسلمين قادرون على هضم التراث العالمي في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، والتجاوز بها إلى تحقيق المقاصد، والحكم، والوظائف التي يفتقدها الغربي، الذي أوجد علماً، وأضاع حكمة، وأبدع وسيلة، وافتقد غاية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.